الإسلام: بين الروحاني و السياسي
Sep 14 2023|Written by Slimane Akalië|opinion
الإسلام فيه جانبين من الأحكام: الجانب الروحاني و الجانب السياسي.
الجانب الروحاني هو جوهر الإسلام و فيه العبادات و المبادئ العليا التي تقود و تنظم حياة المسلم.
أحكام الجانب الروحاني لاتتغير إلا في حالات متطرفة (مثال: أكل لحم الخنزير عند الاضطرار أو إفطار رمضان بالرخصة)، و الالتزام بها هو الفارق بين المسلم و غير المسلم (مثلا حديث النبي ﷺ "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر").
الجانب السياسي هي القوانين و أنظمة الحكم التي تنظم حقوق و واجبات كل مواطن. أحكام الجانب السياسي جاءت في إطار الدولة الدينية و لها سياق تاريخي، لذا تجدها قريبة لهذا السياق حتى يسهل على غير المسلمين الدخول في الإسلام. هذه بعض الأمثلة:
ـ قطع يد السارق كان قبل الإسلام، لكن الإسلام لم يغير هذه العقوبة بل أطرها (حديث النبي ﷺ: "لا تُقطع يد السارق فيما دون المِجَنِّ"، قيل لعائشة: ما ثمن المِجَنِّ؟ قالت: ربع دينار).
ـ المرأة لم تكن ترث قبل الإسلام، لكن الإسلام أعطاها الحق في الإرث مع بعض التقييد و تفضيل جزئي للرجل (مثلا للذكر مثل حظ الأنثيين)، لأن الحقبة التاريخية فيها هيمنة مطلقة للرجل على المرأة في شتى بقاع العالم ستصعب دخوله للإسلام. و الإسلام كان بحاجة لكل رجل لكي ينتشر (القتال في الغزوات، رؤوس الأموال، الدعم السياسي من الحكام الذين كانوا رجالا في معظمهم).
ـ العبودية كانت سائدة قبل الإسلام، لذا لم تحرم العبودية و لكن أطرت علاقة السيد بالعبد (مثلا قال النبي ﷺ في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه "هم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلِبُهم، فإن كَلَّفتموهم فأعينُوهم، ومَن لم يُلائِمْكم منهم فبِيعوهم، ولا تُعذِّبوا خَلْقَ اللهِ")، حرم الربا المؤدي للسقوط في العبودية (قال الله تعالى: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا")، و صار عتق الناس من العبودية فضيلة للتكفير عن القتل الخطأ، اليمين، و الظهار (قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"). فمثلا تحريم العبودية كان سيصعب على أصحاب رؤوس الأموال في قريش (الذين كان لهم الكثير من العبيد و الجواري) الدخول في الإسلام، و أصحاب رؤوس الأموال كانوا مهمين جدا لتمويل انتشار الاسلام.
من كل هاته الأمثلة يتبين أن الجانب السياسي كان قريبا من السياق التاريخي لنزول الإسلام. لكن ال سياق التاريخي لنزول الإسلام كان فيه العديد من الاختلالات شأنه شأن كل عصر، و ماكان بالأمس شيئا عاديا قد يكون اليوم جريمة شنعاء لأن العقل البشري عموما في تطور مستمر، و العاقل يستفيد من أخطاء من سبقوه.
و هذا يطرح السؤال التالي: هل الجانب السياسي من الإسلام قابل للتجديد على حسب ما استجد في كل عصر و ما وصل إليه العقل البشري من تقدم فكري و علمي؟ أم أن التعاليم السياسية التى أتى بها الإسلام ثابتة لاتتغير وكل تغيير فيها هو خروج عن الإسلام؟.
من أفضل ليجيب عن هذا السؤال من محمد رسول الله ﷺ. ففي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أبو داود في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
تفسير هذا الحديث يذهب فيه العديد من العلماء إلى الجزم بأن معنى "يجدد لها دينها" يعني أن من يبعثه الله (سواء كان شخصا أو مجموعة من الأشخاص) سيرد الأمة إلى الصراط المستقيم بعد إذ هي انحرفت عن الدين الحق. لكن هناك سؤال ثان لايجيب عنه هذا التفسير: هل الصراط المستقيم يعني هنا الجانب الروحاني فقط أم يشمل الجانبين الروحاني و السياسي معا؟
مثلا: هل لأن العبودية حلال بالقرآن و السنة يعني أنها يجب أن لا تجرم قانونيا في عصور مابعد الإسلام؟
إذا قلنا أن الثابت في الإسلام (الصراط المستقيم) هو الجانبين الروحاني و السياسي معا فهذا يعني أن تجريم العبودية بعد الإسلام هو خروج عن الإسلام، بنفس المنطق يمكن استنتاج أمثلة قوانين أخرى:
- تجريم زواج القاصرات حتى قبل سن البلوغ هو خروج عن الإسلام ("واللائي لم يحضن" ـ سورة الطلاق الآية 4)
- تجريم العنف ضد النساء في حالة عدم إطاعة الزوج هو خروج عن الإسلام (قال الله تعالى: "واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا" ـ سورة النساء الآية 34)
- ينبغي إعدام أي مواطن خرج عن الإسلام و لم يرجع إليه ( قال النبي ﷺ: "من بدل دينه فاقتلوه")
- و ينبغي إعدام أو حبس مدى الحياة أي مواطن ترك الصلاة و لم يقتنع بالرجوع إليها (القتل وفق المذهب الشافعي و المالكي و الحنبلي، و الحبس حتى التوبة أو الموت وفق المذهب الحنفي).
و هذه مجرد أمثلة بسيطة إذا افترضنا أن الجانب السياسي من الإسلام ثابت لاينبغي المساس به و صالح لكل زمان و مكان.
أما إذا افترضنا أن المسألة أعقد من ذلك بكثير، و أن الأرجح هو أن الجانب الروحاني هو الثابت و الجانب السياسي متغير ("إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما" ـ سورة النساء الآية 48)، فعندها تصبح قوانين الجانب السياسي قابلة للنقاش و خاضعة لمقاصد الجانب الروحاني مع الأخذ بعين الاعتبار للسياق التاريخي للنصوص.
مثال بسيط يثير الكثير من الجدل و لكن يوضح الاختلاف في القراءات: المساواة في الإرث بين الرجل و المرأة. آيات الإرث آيات واضحة لاتحتاج تفسير، لكن هل إعطاء للذكر مثل حظ الأنثيين هو غاية الإسلام؟ أم أن السياق التاريخي هو الذي جعل تشريع المساواة في الإرث مستحيلا و غاية الإسلام هي المساواة؟، تذكر أن المرأة لم تكن ترث شيئا قبل الإسلام، لذا فإعطاؤها نصف حق الذكر هو مجرد بداية.
نفس منطق تحليل العبودية، هل غاية الإسلام هو ضمان استمرار العبودية لأن هناك آيات واضحة مثل آيات الإرث حيث قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) ـ سورة المؤمنون". أم أن السياق التاريخي جعل تحريم العبودية مستحيلا لكن الإسلام ضد العبودية لذا بدأ بإعطاء حقوق للعبيد و حرم الربا و جعل عتق الرقاب فضيلة.
و حتى إن افترضنا أن الدفع بقابلية تغير الجانب السياسي من الإسلام هو خطأ، فهل الإسلام يشجع على ثقافة الحوار و الحجج أم على ثقافة التكفير و التخوين و السب؟ سؤال مفتوح لكن الجواب واضح.
و الله أعلم.
صورة الغلاف بعدسة Ekrem Osmanoglu.